لعل المفوض السامي الفرنسي الجنرال "غورو" شعر بالفخر العارم حين اعلن قيام " دولة لبنان الكبير " بحدودها التي لا تزال قائمةً حتّى ايامنا هذه، وذلك بموجب القرار 318 الصادر في 31 آب من العام 1920، بل لعله شعر بجنون العظمة باعتباره الرجل الذي سطّر بيده حدوداً ورسم علماً وأخرج الى دائرة الضوء دولةً. ولعل روحه الآن هائمة في متاهات التاريخ والجغرافيا، فتظن الزمن لم يتجاوز حقبة العشرينات من القرن العشرين، حيث الدولة لا زالت كما أعلنها، مجموعة اجزاء شكّلت جسماً مركّباً، هجيناً، فلم تحملها العقود التسع التي انصرمت بعد زمن الولادة إلى مصافي الدول، مجرّد الدول، حتّى لا نتجرّأ ونتحدّث عن الدول التي تحمل سمات هذا الزمن .
فلبنان، الدولة التي شاخت في سن المراهقة، هو
دولة هجينة حتّى في أكثر العناصر المكوّنة للدولة عموميّةً، حيث تكاد كل خاصةٍ من
خصائصها تحمل حكايةً أشبه بالخرافات. من النظام السياسي الذي صنّفه الدستور
"ديمقراطيّاً برلمانيّاً"، والذي في واقع الامر يصنّف نظاماً سياسيّاً
هجيناً لا شبيه له بين الانظمة السائدة في الدول الحديثة، فالانتخابات تجري بين
المتنافسين الكبار، والكل رابح، ولا معارضة للحكم الاّ لمن اسقطته حسابات الصفقة. إلى
الطائفيّة الآخذة في التجذّر في عمق النسيج الاجتماعي، أمّا مرور الزمن الذي راهن
عليه البعض كمساعد للانتقال والعبور الى الدولة المدنيّة غير الطائفيّة، بل
والعلمانيّة، والتي تقوم على أساس المواطنة وسلطة القانون والمساواة والحريّة
والعدالة الاجتماعيّة، مرور الزمن هذا مَرّ وغار في الماضي السحيق تاركاً خلفه
"الدولة الحُلُم" تتخبّط بمزيدٍ من الطائفية والعصبية والتشرذم، وشعبها يشهد حالة من الانقسام والاصطفافات السياسية
والطائفية، ولم تصل القوى السياسية الفاعلة فيها إلى الحد الادنى من الممارسة
الديمقراطية الذي يتيح تداولاً للسلطة واعترافاً بالمعارضة كحق سياسي طبيعي، بل ان اعتماد الدائرة الموسعة على أساس
النظام الاكثري أدى في لبنان في ظل ضعف الأحزاب السياسية إلى هيمنة الإقطاع
السياسي على المجلس النيابي مقصياً القوى التغييريّة جانباً .
وإذا كان اعتماد مبدأ الهيئة
الناخبة الواحدة في القوانين الانتخابية المتتابعة ساهم بفعالية في حفظ الرابط
الذي يجمع بين المكوّنات الطائفيّة للشعب اللبناني، فإنّ التحوّل المستجد في هذا
المجال والمتمثل بطرح قوانين انتخابية تعتمد الهيئة الناخبة المتعددة بديلاً من
الواحدة من شانه أن يسقط الخيط الرفيع الذي يحول دون التشرذم الذي يمكن أن يؤدي إلى
تقسيم جغرافي للدولة اللبنانية المكوّنة من مجموعة من الطوائف المتحدة في إطار
فدرالية لا تقوم على أسس جغرافية بل على أساس الطوائف حيث تكرّست بنية مجتمعها
الطائفي في بنية حقوقية جعلت لكل طائفة شخصية قانونية لها نوع من الاستقلال الذاتي
بالنسبة إلى شؤونها الخاصة وأحوالها الشخصية ومؤسساتها الخيرية وأوقافها إضافة إلى
حصتها المُطوّبة باسمها في مراكز السلطة والمؤسسات الدستورية والوظائف العامة .
مهما كان المجتمع متنوّعاً إتنيّاً
أو طائفيّاً، فالتناحر بين مكوّناته ليس قدراً محتّماً، بل ان هذا التناحر هو
نتيجةً للجهل والتعصّب وعدم صوابية الولاءات والانتماءات، بل والعنصريّة والانانية
حيث الشأن العام والمصلحة العامة والقانون والحقوق والواجبات والتمتّع بحس
المواطنة كلّها في اسفل القائمة، في حين ان الحل يبدأ منها جميعاً وبالتالي يفترض إعطاءها
الأولويّة. إذن الحل هو "الدولة المدنيّة " الحديثة، وهذا يستدعي قلب
القائمة رأساً على عقب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق